على خلفية منع كتاب مذكرات بلغريف
على خلفية منع كتاب مذكرات بلغريف
يقول العرب «من لم يشتغل بالشعر فليشتغل بالرواية»، فالشاعر لديهم هو مفخرة القبيلة، بينما الراوي هو ملجأ القبيلة لسماع تاريخها وتدوين أحداثها وأنساب رجالها، فالراوي هو صاحب قصة ومجمع لمختلف الروايات، فهو مؤرخ في العصر الحديث، والبحرينيون بأصلهم العربي ميّالون لسماع الرواية وقراءة التاريخ خاصة فيما يتعلق بتاريخهم وحوادث أجدادهم، لذا فهم في حالة شغف دائم بما يقال ويكتب عن ماضيهم، فبأي حق يتم حجب مذكرات بلغريف؟ وبأي حق يمنع ما يريد الناس معرفته؟
لم يكن بلغريف بالشخصية الاعتيادية بالنسبة لتاريخ البحرين، وما كتبه يعتبره الكثير من الباحثين والمشتغلين بتاريخ الخليج عامة والبحرين خاصة مرجعاً مهماً لرصد الأوضاع السياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية طيلة ثلاثين عاماً قضاها بلغريف في ربوع البحرين ماسكاً بالإدارة المحلية ومتحكماً في أمور الدولة.
لم يكن قدوم بلغريف من باب الصدفة، بل كانت الأوضاع التي تمر بها البحرين آنذاك خاصة مع تحول البحرين من الحكم القبلي إلى الحكم المركزي نتيجة للإصلاحات والتي طالت جوانب عدة، بحاجة إلى قدوم شخص مثل بلغريف بحسب ما تراه بريطانيا بحكم قانون الوصاية.
وصل بلغريف إلى البحرين العام 1926م بعد إعلان صاغه المعتمد البريطاني في البحرين الميجر ديلي في صحيفة «التايمز» البريطانية جاء فيه «مطلوب شاب متعلّم عمره بين 22 إلى 28 سنة على أن يكون خريج المدارس الأهلية وأن يحمل مؤهلاً جامعياً يخوّله العمل في دولة من دول الشرق»، وجاء هذا الإعلان بمثابة النقلة التي انتشلت بلغريف من حظه العاثر في العمل العسكري في تنجانيقا، حيث كان يريد عملاً مرموقاً يحصل من خلاله على راتب جيد يقنع به والد «مارجريت» للموافقة على الزواج منها.
يقول بلغريف حين حط برجله إلى البحرين «حين وصلت إلى البحرين العام 1926م لم يكن هناك هيكل حكومي وإدارات رسمية، ولم يكن هناك غير الشرطة والجمارك فقط إلى جانب مدرستين وبلدية واحدة، ولم يكن للحكومة مستشفى ولم تكن هناك ميزانية، أما القوانين والأنظمة فقد كانت مبهمة وغير واضحة، كان الأمن معدوماً، فالناس تحمل السلاح في الليل والمنازل من دون ماء ولا كهرباء والطرقات يغطيها الوحل والتراب».
لذا عمل بلغريف على تمركز السلطة بيده، إذ أصبح رئيساً للشرطة والقضاء، ومشرفاً عاماً على جميع الدوائر الحكومية كالصحة والتعليم والأشغال العامة، وإدارة الطابو «مسح الأراضي»، والجمارك والبلديات والحدائق العامة، وقد حقق نجاحاً ملموساً في التعليم وشئون المساحة والأمن الداخلي بتعيينه قوة بوليسية من الشرطة الهنود.
ولم يستقدم بلغريف خبراء وفنيين لمساعدته في مهامه، بل أشرف بنفسه على جميع الأمور، حيث حصل بلغريف على ثقة الشيخ المطلقة وهذا ما يشير إليه بلغريف بقوله: «كثيراً ما كان الشيخ عند مقابلتي يضع بعض الرسائل أو الشكاوى في الجيب الخارجي لمعطفي قائلاً: خذ هذه واقرأها في وقت آخر، وتصرف حسبما تراه».
في مذكرات بلغريف تجده حاضراً في المشهد البحريني آنذاك، فهو يصف الغواصين البحرينيين بأنهم «مغامرون بالفطرة»، وقد تصادم معهم أكثر من مرة خاصة عندما اعتقل عدد من الغواصين بسبب اعتراضهم العلني على إصلاحات الغوص خاصة في مسألة تقليل القرض المعروف بالسلف.
أما في التعليم فيرى بلغريف أن تجّار البحرين مقتنعون بفكرة تعليم البنات، لكنهم متخوّفون من رد فعل المجتمع إذا ساندوها، فلذلك آثروا عدم الخوض فيها علانية، وهذا يتضح من خلال ما جاء في رد أحد تجار البحرين على بلغريف بخصوص مشروع الحكومة في تعليم البنات حين قال: «إنه لشيء جميل أن تكون لدينا مدرسة للبنات، لكنني أفضل عدم ذكر اسمي كمساند لهذه الفكرة…».
بلغريف شهد قصة ظهور النفط في البحرين لا نعلم لماذا يشير إليها على أنها «قصة بائسة». ربما يرجع السبب إلى أن النفط ثمرة التقطها الأميركان في الخليج بمرأى وبمسمع من الإنجليز، وهذا ما يؤكده بلغريف نفسه حين قال «لهذا أصبح أكثر من نصف نفط الخليج في حوزة الأميركان، ولم يتمكن الإنجليز من إقناعي في أي وقت سبب تخليهم عن نفط الخليج».
بلغريف يرى أن إضراب عمال بابكو العام 1938م، ظاهرة غير صحية موجودة لدى البحرينيين، ويسميها بظاهرة «التظاهر ضد تشغيل الأجانب»، متناسياً بأنها نتيجة لسياسة التمييز التي اتبعتها الشركة بين العمال البحرينيين وموظفيها الأجانب وبخاصة الهنود، ومعه شعر العمال البحرينيون بالغبن والظلم من إدارة الشركة، مما دفع البعض إلى أن يكتب على جدران أحد النوادي آنذاك: «يزداد الهنود يوماً بعد يوم يتقاسمون معي هذه الجزيرة الصغيرة، فإذا كانت الهند كبيرة كما يقولون فلماذا لا أقاسمهم إياها».
ليس كل ما يقوله بلغريف حقيقة، وليس كل ما يراه صحيحاً، لكن ذلك ليس مدعاة أن ننتقي من صفحات مذكراته ما نريده، ونمنع البقية من الظهور للعلن، هي فترة تاريخية مهمة ونقطة تحول مهمة في انطلاقة البحرين نحو تأسيس الدولة الحديثة ذات الطابع المركزي من حيث اعتماد ميزانية سنوية للبلاد، وتأسيس دوائر ومؤسسات حكومية، وتنظيم الحياة العامة، وانخراط المجتمع في ظل قوانين وأنظمة ملزمة. لذا فإن هذه الفترة بحاجة إلى مزيد من الدراسة على أساس التحليل العلمي الذي يتيح مجالاً أوسع للتعرف على خصوصيات المجتمع البحريني، وأهم التأثيرات التي تحركه، مما يعزز من مسيرة البحث التاريخي المحلي، والتي توفر للأجيال القادمة فرصة البحث والاطلاع على تاريخهم وتراثهم الوطني، مما يؤثر على روح المواطنة التي تتبناها كافة مؤسسات المجتمع المدني.
رملة عبد الحميد
صحيفة الوسط البحرينية – العدد 2833 – الأربعاء 09 يونيو 2010م