أقام مركز البحرين لحقوق الإنسان فعالية افتراضية بمناسبة اليوم الدولي لنيلسون مانديلا. تمحورت الندوة حول تجربة مانديلا في إحداث التغيير، وأهم الدروس التي يمكن استخلاصها من هذه التجربة. ركزت الندوة على قدرة مانديلا على إرساء عقد اجتماعي جديد في جنوب أفريقيا وإنهاء نظام الفصل العنصري، وأهم العوامل التي ساعدته في تحقيق ذلك. أدارت الندوة أسماء درويش، مسؤولة المناصرة في مركز البحرين لحقوق الإنسان.
افتتح الندوة الشيخ ميثم السلمان، رئيس مركز البحرين للحوار والتسامح، بالإضاءة على النقاط الجوهرية في حراك مانديلا وأهم المبادئ التي انطلق منها، والتي تحتاج إلى فهم مبادئ اللاعنف.
النقطة الاولى: أن مانديلا كان يصر على اعتماد الوسائل المدنية والسلمية في المعارضة، فرغم قساوة الفصل العنصري أصر على النهج السلمي ورفض الإنجرار إلى العنف. نوّه الشيخ ميثم أن مذبحة 1960 التي أطلقوا فيها الرصاص الحي على المتظاهرين السلميين غيرت وجهة نظر مانديلا اتجاه الصراع واجتمع بحزبه وطرح فكرة العنف مقابل العنف واعتماد الكفاح المسلح، مما أدى إلى عزله من حزب المؤتمر الوطني الإفريقي. وأشار أن الدرس الذي يجب استخلاصه من هذه التجربة على مستوى الحكومات والمنظمات هو أنه عندما يُحاصر المعتدلون تُفتح الطريق أمام التطرف. بعد عشرين سنة من الكفاح السلمي وبعد استمرار التضييق والبطش فقد مانديلا الأمل بالوسائل السلمية من أجل تحقيق تغيير سياسي فدعا إلى الكفاح المسلح، ولكنه عاد وأدرك في السجن أنه بالعنف لا يمكن تحرير جنوب أفريقيا؛ كان لديه الجرأة ليعترف بخطأه.
النقطة الثانية: هو لجنة الحقيقة والمصالحة وهي مدرسة لإنصاف الضحايا. توقف الشيخ ميثم عند دور القادة الدينين في تحقيق المصالحة مشيراً إلى الدور المحوري الذي لعبه هؤلاء في تجارب المصالحة الوطنية في بلدان متعددة حول العالم، مثل مالي، وجنوب أفريقيا، وكرواتيا، وايرلندا الشمالية، في تقريب وجهات النظر وتعزيز فرص إنجاز المصالحة. كما أشار الشيخ ميثم أن قساً هو من تولى إدارة هذه اللجنة التي مثلت تجربة فريدة من نوعها. أسفر عمل هذه اللجنة عن العفو عن أكثر من 830 شخص متورط في انتهاكات حقوق الإنسان وتعويض أكثر من 22000 ضحية. لا يمكن أن يُبسط الطريق أمام المصالحة الوطنية من دون إنصاف الضحايا وكشف الحقائق، وهذا يتطلب الشجاعة من كافة الأطراف.
النقطة الثالثة: مانديلا تعرض للتعذيب الوحشي ولأنواع مختلفة من الإنتهاكات لكنه عفى عن جلاديه وطلب من الجميع أن يعفوا عن الجهات التي تسببت لهم بالأذى. ومن هنا أكد الشيخ ميثم أن المصالحة الوطنية تحتاج إلى ثقافة التسامح والمضي قدماً إلى الأمام.
النقطة الرابعة: ارتكاز المصالحة الوطنية في جنوب أفريقيا على قاعدة حقوقية بإمتياز. نظام الفصل العنصري عزز التمييز والإنقسامات واللامساواة بين السكان فتمحورت المطالبات حول الحقوق، وبشكل خاص الحقوق السياسية التي أعتقد مانديلا أنه من دون الحصول عليها لا يمكن الحصول على الحقوق الأخرى. أشار الشيخ ميثم أنه لا يمكن للمجتمع المدني والإعلام والجهات الأهلية أن تزدهر من دون بيئة ديمقراطية، وهذه البيئة تصان بالحصول على الحقوق السياسية والمدنية. وبالتالي لا يمكن أن نستخف ونتجاهل الدعوات التي تركز على الحق السياسي أولاً.
النقطة الخامسة: مانديلا أـمتاز بالقدرة على صناعة الثقة بإرساله رسائل إيجابية من القلب للطرف الآخر. عند خروجه من السجن، أعلن أنه يتطلع إلى بلد الجميع وأن التعدي على البيض هو مساوٍ للتعدي على السود، رداً على دعوات الانتقام وطرد البيض من جنوب أفريقيا. أكد مانديلا على مسار بناء الثقة مع الطرف الآخر وهذا درس آخر يمكن استخلاصه من هذه التجربة.
النقطة السادسة : أن مانديلا في جلسات الحوار وبعد الخروج من السجن أراد من الجميع وحتى المتشددين الجلوس على طاولة الحوار. آمن أنه لا يمكن إقصاء أحد.
أختتم الشيخ ميثم بالإشارة إلى الشيخ علي سلمان، الذي يقضي حكم بالسجن المؤبد في سجن جو في البحرين والذي زار قبل سنوات قبر مانديلا وبيته والتقى بعائلته. أكد الشيخ ميثم أن الشيخ علي سلمان الذي لطالما تتطلع لتحقيق دولة الحقوق المتساوية والذي يرفض كافة أشكال العنف لابد من ذكره اليوم، كما يجب ذكر حسن مشيمع وعبد الوهاب حسين والشيخ عبد الجليل المقداد وعبد الهادي الخواجة. كما دعا الشيخ ميثم إلى اتخاذ خطوات تمهيدية لصناعة الثقة والمضي قدماً بالمصالحة الوطنية والحوار الوطني الشامل في البحرين.
زينب الدرازي، عضو في الجمعية البحرينية لحقوق الإنسان، ركزت على إنجاز آخر لمانديلا وهو عدم تفكيك جنوب أفريقيا إلى دويلات صغيرة ووضع حد للحرب الأهلية بين البيض والسود. فالنقطة الأساسية التي يجب التوقف عندها أن حكومة مانديلا عندما استلمت السلطة عملت على تفكيك إرث نظام الفصل العنصري وليس مؤسسات الدولة.
أما النقطة الأخرى هو أن مانديلا نظر للبيض على أنهم مواطنين وليسوا أوروبيين وأن الصراع في جنوب أفريقيا هو بين أقلية حاكمة وأغلبية يُمارس عليها الفصل العنصري، وليس استعمار خارجي. كما أشارت زينب أن مانديلا أدرك صعوبة التخلص من نظام الفصل العنصري الذي تركّزَ في جنوب أفريقيا والذي ولّد فقر ولا مساواة شديدة وخلافات عرقية حادة.
أكدت زينب أن نهج حكومة مانديلا بعدم تفكيك مؤسسات الدولة أدى إلى تماسك البلاد، حيث لم يتم حل البرلمان، لم يُحكم على من كان بالسلطة بالسجن والقتل، ولم تسفك الدماء. مانديلا لم ينسف الدولة ومؤسساتها بل فرض رؤيته للسلام.
كما أشارت زينب إلى أهمية لجنة الحقيقة والمصالحة التي كان هدفها محاسبة الجناة وتعويض الضحايا وهم بالألاف. هذه اللجنة أرست حالة من السلام والقبول. وشددت على أن عدم إنصاف الضحايا يهدد مسيرة السلام.
نوّهت زينب أن الثقافة القبلية في جنوب أفريقيا تهدد إرث مانديلا، وأن تقديس الأشخاص أدى إلى انتشار الفساد. وأنه لا يمكن تحقيق المساواة والديمقراطية فقط بالقانون بل نحتاج إلى تربية وثقافة ديمقراطية.
عادت زينب وأكدت على أهمية عدم هدم مؤسسات الدولة في أي محاولة للتغيير. وأكدت أن تجارب بلدان كمصر والعراق تثبت خطورة هذا المسار. فمثلاً، أنجرت القوى الوطنية في العراق لهذا المسار وحولت الدولة إلى اللادولة.
ابتدأت فانيسا باسيل، رئيسة منظمة إعلام للسلام، مداخلتها بالإشارة إلى أن تجربة مانديلا هي مصدر إلهام للمناطق التي تشهد نزاعات، كمنطقتنا العربية، وأن أقواله مصدر إلهام في بناء السلام.
أشارت فانيسا إلى قول مانديلا أن السلام ليس فقط غياب النزاع، فعدم وجود الحرب لا يعني أن هناك سلام. وأن النزاع هو أمر طبيعي وإنما المشكلة تكمن في اللجوء إلى العنف لحل النزاع؛ العنف هو المشكلة الحقيقية . العنف ليس فقط الجسدي وإنما أيضاً النفسي والثقافي والبنيوي. إن الإقتداء بمانديلا يعني مكافحة جميع أنواع العنف وخاصة البنيوي منه. السلام يعني غياب العنف ومكافحته، وتحديد مكامنه، فالعنف في كثير من الأحيان غير مرئي ولا يمكن تحديده بسهولة كما هو في حالة النزاعات المسلحة أو تعدي السلطة على الناشطين او المتظاهرين وغيرها من أشكال العنف الجسدي. يمكن أن يكون العنف موجود في القانون، في بنية المجتمع، وفي نفوس الناس .
إن تحقيق السلام يحتاج تعليم السلام وتغيير ثقافة المجتمع من مجتمع يلجأ إلى العنف لحل النزاعات إلى مجتمع يؤمن بالسلام.
التربية سلاح للتغيير كما يقول مانديلا. ونشر ثقافة السلام تبدأ من المنزل وعلينا العمل عليها في المجتمع الصغير والكبير.
كما أشارت فانيسا إلى ارتباط السلام بحقوق الإنسان، حيث لا سلام من دون احترام حقوق الإنسان السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية. الحقوق هي شاملة لا تتجزأ. إن احترام كافة الحقوق لكافة فئات المجتمع هو شرط لبناء السلام. وإن عدم احترام هذه الحقوق يجر المجتمع للعنف والتطرف.
إن العلاقة بين السلام والتنمية هي علاقة عضوية. وهنا أشارت فانيسا إلى قول مانديلا السلام هو سلاح التنمية. لا تنمية من دون سلام ولا سلام من دون تنمية. كما أكدت على أهمية الاهتمام بالإعلام وبشكل خاص وسائل التواصل الاجتماعي لتعزيز ثقافة السلام. وأكدت إن انتشار الأخبار الكاذبة والتنمر وخطاب الكراهية لا يساعد على نشر ثقافة السلام ولا يكرس حماية حقوق الإنسان. استخدام وسائل التواصل بشكل ذكي يحترم الآخر هو خطوة مهمة في هذا المجال.
انتهاك الحقوق يسلب الأمل بالتغيير، وهنا يجب القول أن محاسبة الحكام هو ضرورة لتحقيق السلام.
اختتمت فانيسا بالقول أن كل شيء يبدو مستحيل حتى يتحقق، وهذا قول آخر لمانديلا. فحتى لو كانت المهمة صعبة يجب أن نحاول، فهذا ما تعلمناه منه.
افتتح فادي القاضي، كاتب وخبير في مجال حقوق الإنسان والإعلام في الشرق الأوسط، كلمته بالإشارة أن مانديلا لا يُذكر كرمز للعمل السلمي، بل كباني لحركة وطنية في سياق المؤتمر الوطني الأفريقي. يجب أن يؤخذ كمثال في بناء الحركات الوطنية التي تقوم على أسس المطالبة بحقوق أصيلة لمجتمعاتها.
نوّه فادي إلى موقف مانديلا أمام المحكمة في العام 1964، بعد اتهامه بتهم متعلقى بممارسة العنف، حيث قال أنا قمت بذلك لعدم وجود طريقة أخرى لنيل حقوق الأفارقة. إن اختيار العمل العنفي ومن ثم اللاعنفي من قبل مانديلا فيه دروس للحركات المطالبة بالتغيير في بيئتها. لا بد من أن نأخذ بعين الاعتبار حركته ببعديها العنفي واللاعنفي في دراستنا للحراك العربي منذ العام 2011 المطالب بالتغيير السياسي والاجتماعي والاقتصادي، سواء بإسقاط النظام، إعادة بناء شكل الدولة، تغيير العقد الاجتماعي أو غير ذلك.
كان الحركة الوطنية التي أسسها مانديلا واضحة الأهداف والمعالم، حيث كان المطلوب إنهاء نظام الفصل العنصري والتخلص من معالمه وسياساته وتغيير العقد الاجتماعي. أكد فادي أن في ذلك درس للعالم العربي وأنه بسبب عدم وجود حركات وطنية ذات رؤية استراتيجية وأجندة وطنية واضحة لم ننجح في إحداث التغيير.
من دون الحريات الأساسية كالتظاهر والتنظيم والتجمع والعمل المدني والسياسي لا يمكن بناء حركة وطنية، وهنا يلجأ الناس إلى العمل اللاسلمي.
أكد فادي أن الدرس الأول هو أن نجاح تجربة مانديلا مرتبط بوجود حركة وطنية تبلورت بعد مسار طويل وخاضت مناقشات داخلية وخارجية، كما بلورت رؤية استراتيجية ووضعت أجندة وطنية واضحة. وهذه المخاضات لا نشهدها في العالم العربي مع غياب المساحة السياسية، حيث فضاء العمل المدني والسياسي هو فضاء مقتول وغائب وعلاقة الحاكم والمحكوم يشوبها الكثير من عدم الإنصاف. إن بناء الحركة الوطنية هو أهم ما علمنا إياه مانديلا، وهو درس للعمل الحقوقي والمدني في الوطن العربي.
أشار فادي إلى ضرورة التركيز ليس فقط على إسقاط النظام في محاولة إحداث تغيير، وإنما الإنتقال بالمجتمع من حالة لحالة أخرى، أي مرحلة العدالة الانتقالية، والعمل على عدم تكرار التجارب السابقة، وتكريس منظومة جديدة من القانون والتشريع القادرة على إنصاف الضحايا ومعاقبة المتسببين بالانتهاكات وإنهاء ثقافة الافلات من العقاب.
أكد فادي أيضاً أن مسار الاجتثثاث، أي اجتثاث الطبقة السياسية السابقة، هو نموذج لم ينجح كما في حالة العراق. وأن هذا النموذج من العدالة الانتقالية لم يؤدِ إلى التغيير المطلوب.
عندما نتحدث عن التغيير هناك أمران: الأمر الأول هو ما هو التغيير المطلوب؟ ما هو التغيير الذي نسعى إليه كحركات وطنية؟ في نموذج مانديلا كان هو الانتقال من حالة الفصل العنصري إلى حالة أخرى تسود فيها المساواة والعدالة واحترام الحق الإنساني. أما في عالمنا العربي لدينا مشكلة في فهم ما هو التغيير المطلوب. لقد ثُبت أن إسقاط النظام بحد ذاته لا يكفي، فهناك حاجة لتغيير اجتماعي سياسي واقتصادي. إن إسقاط النظام لا يكفي ما دامت الشروط السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي أنتجت النظام لا زالت قائمة. وفي هذا الصدد، علينا أن ندرس أيضاً ما هو موقف المجتمع الدولي من هذا التغيير. التحدي في المنطقة هو أن أي تغيير يجب أن يكون مرتبط بإحقاق الحقوق وأن تكون هذه الحقوق جوهر أجندة هذا التغيير.
الأمر الآخر هو من هم اللاعبون من أجل التغيير؟ لا ضرر في وجود أجندة للتغيير ولكن يجب أن تُكتب هذه الأجندة بشكل واضح وأن تُناقش مجتمعياً.
بدأت نضال السلمان، رئيسة مركز البحرين لحقوق الإنسان، مداخلتها بالتأكيد على أهمية نشر ثقافة اللاعنف ودور مركز البحرين لحقوق الإنسان في هذا الصدد.
نوّهت نضال إلى أن الهدم أسهل من البناء، حيث قاربت بين العنف والهدم. يرى البعض أن اختيار العنف هو الطريق الأسهل، ولكن العنف لا يحقق التغيير المطلوب. إن صناعة السلام تتطلب شجاعة، وصنّاعوه هم من يكتبون التاريخ.
أكدت نضال أن الحرية لا تكون بالتجزئة، فالمساواة بين الجميع وعدم التمييز هو أساس بناء الدولة. وأشارت إلى أن من يطلب المساواة يجب أن يحترمها وأن لا يرضى لغيره بأقل منها.
بالإشارة إلى تجربة مانديلا، تناولت نضال موقفه بعد خروجه من السجن. مانديلا لم يفكر في الانتقام لنفسه لسنوات السجن الطويلة وللتعذيب الذي تعرض له بل بإنصاف الضحايا. وفي هذا الصدد، أكدت أن السلام والتسامح لا يعني عدم إنصاف الضحايا، فلا سلام من دون عدالة ولا بد من محاسبة المسؤولين. إن عدم الإنصاف يولد الكراهية والحقد ويعيق مسيرة السلام.
إن من أهم الدروس التي نتعلمها من مانديلا هو الإصرار على المبادئ وعدم التخلي عنها. رغم كل ما تعرض له مانديلا من أذى وحرمان من حريته لسنوات طويلة بقي مصراً على مطالبه بإنهاء التمييز واللامساواة. إن المثابرة والإصرار على المطالب هو الذي يضمن تحقيقها. وهنا أشارت نضال إلى الواقع البحريني، حيث لعقود طويلة يطالب الشعب البحريني بنفس الحقوق. إن التخلي عنها الآن يعني رمي عقود من النضال، فالخيار الوحيد هو استكمال هذا الدرب الذي لا يمكن التنازل عنه أبداً. أما الدرس الثاني هو أن التسامح هو شرط للمصالحة. بعد خروجه من السجن، مانديلا سامح جلاديه وطلب من الجميع أن يغفروا. الكراهية لا تصنع حلول.
اختتمت نضال كلمتها بالمطالبة بالإفراج عن السجناء، فهي الخطوة الأولى للمصالحة والحوار بين جميع الأطراف والبدء بصفحة جديدة في البحرين. الإفراج عن السجناء ضرورة للجلوس على طاولة واحدة وإيجاد حلول لمشكلة البحرين.
لمشاهدة الندوة كاملة، اضغط هنا.