هل كبرت حقًا لأصبح هذه المرأة؟ الجزء الرابع و الأخير

بقلم أسماء درويش، رئيس المناصرة في مركز البحرين لحقوق الإنسان (BCHR)، عضو AAWE ورئيس الاتصال في شبكة FAWCO للاجئين

* تمت كتابة هذا المقال ونشره من قبل AAWE Paris، وهي سلسلة من 4 مقالات مطبوعة في رسالتها الإخبارية التي تصدر كل ثلاثة أشهر. 

وغادرتُ إلى الأبد

أصبحت البحرين، موطني، صغيرة جدًا بالنسبة لي، وكنت على وشك الاختناق هناك. سمعتُ ذات مرة أنه لا أحد يغادر منزله حتى يتحول منزله إلى فم سمكة قرش. يغادر المرء الموطن فقط عندما لا يسمح لك الموطن بالبقاء، عندما يفعل كل ما في وسعه لطردك، عندما يمهد لك الطريق للمغادرة؛ كل شيء فيه يصرخ “عليك أن تذهب بعيدًا، وإيّاك والنظر إلى الوراء”.

كان الموطن يصرخ في أذني: غادري، وكوني مطمئنة أنني سأجعلكِ تفقدين كل ما عرفتيه، وكل شخص أحببته. سوف يبتعدون واحدًا تلو الآخر، واحدًا خلف الآخر. ستذهبين بعيدًا لدرجة أنهم لن يتعرفوا على وجهكِ بعد الآن، وسيصبح صوتكِ غير مألوف. سوف ينسونكِ، سواء فعلوا ذلك عن قصد أو بغير قصد. وفي الحقيقة، سوف يبحثون عن أسباب لنسيانك.

الجميع مخطئون. أنتِ تتغيرين كثيرًا لدرجة أن الجميع في الوطن بدأوا في فصل أنفسهم عنكِ، لأنهم يعتقدون انّكِ لم تعودي واحدة منهم. لكنني كنت دائمًا أحمل موطني في قلبي، لقد كانوا بالفعل مخطئين. لم يكن عليّ أن أكون في البحرين لأشعر وكأنني واحدة منهم فلقد أحضرت البحرين معي وفي قلبي إلى فرنسا.

لم أهرب من الوطن فقط، بل هربت من مليون ذكرى، فهل يا ترى سأنجو وهل ستسمح لي تلك الذكريات بالعيش بسلام؟ كان الموطن قاسيًا. كان الجميع قاسيين. تساءلت عما إذا كانوا يرضعون القسوة منذ أن كانوا حديثي الولادة.

هربت من الوطن، ولم تكن رحلة بسيطة. كان الوطن الجديد باردًا في البداية؛ غريبًا، لقد تحدثوا بلغة لم أستطع فهمها. بدا كل شيء غير مألوف، حتى التمييز بين الملح والسكر في السوبر ماركت. أخذت الكثير من الوقت للتكيّف مع بيئتي الجديدة. اضطررت إلى التمسك باسمي، لأن لا أحد هنا يعرف من أنا. كان عليّ أن أبقى “أسماء” وليس شخصًا آخر. لو كنت فقط قد استسلمت لفوضى المدينة الجديدة، لكنت قد اختفيت منذ فترة طويلة.

لقد بذلتُ الكثير من الجهد هنا ليتم التعرّف عليّ ولأغرس قدميّ بشكل جيد على هذه الأرض. هذه التربة الجديدة غيّرتني. سيكون من الحماقة أن أقول غير ذلك. لكن لماذا كنا قد تجنّبنا التغيير؟ أشعر دائمًا أنني أحمل حقيبة الظهر هذه طوال الوقت، حرفيًا طوال الوقت. في تلك الحقيبة يوجد كل شيء تعلمته أو تم تعليمي إيّاه منذ أن كنت طفلة. لقد مرّت ست سنوات الآن، وبدأتُ منذ فترة غير قصيرة بالشعور بثقل حقيبة الظهر هذه، وكتفي أصبح بها نوعٌ من الكدمات.

عذاب في يوم ربيعي

إنني أكتب في يوم ربيعي، المطر هنا يتدفق وكأن شخصًا ما يبكي، أشعر نوعًا ما بالحزن. لديّ مليارات الكلمات التي لا أستطيع أن أكتبها أو أتحدثها. بصفتي لاجئة، أصبحت أنتقل بين الكلمات وبدأت بكتابة القصص والاستماع إلى القصص، لأنه لم يبق منا سوى قصصنا. بمرور الوقت، حتى تلك القصة ستفقد إحساسها ومعناها، سئمنا تكرارها مرارًا كما لو كنا دراسة ما.

كلما شعرت بقشعريرة قادمة من داخل روحي في هذا العالم، وبدأت أشعر بالحنين إلى الوطن وفقدان المنزل، أغوص في ذلك بعمق أكثر. أتذكر كل الأشياء التي تعلمتها، سواء كانت جيدة أو سيئة، وكل أوقات الضحك والعذاب. أذكّر نفسي بأمي وأبي. قلت لوالديّ في الليلة التي غادرت فيها: “لا تذهبوا إلى أي مكان، فلن يدوم هذا الفراق طويلاً؛ سأعود”. مرّت ست سنوات منذ تلك الليلة، ولم أستطع العودة، ولم أرهم مرة أخرى. حدثت أشياء كثيرة في هذه السنوات الست، أنجبت ابنتي، وحصلت على الطلاق.

خلال هذه السنوات الست ماتت أمّي، وقبل أسابيع قليلة مات أبي، لأن الموت لم يعد ينتظر. صليت، الله يعلم بأنني صليت من أجلهم. لكن الموت كان لا مفر منه، أقوى من أي صلاة. توفي والدايّ وتركوني في منفى على بعد آلاف الأميال، ولم يروا أطفالي أبدًا. غادروا بسرعة، كنت آمل فقط أن يبقوا قليلاً، لفترة أطول قليلاً، حتى أتمكن من العودة إلى المنزل. ما هو المنزل الآن من دونهم على أي حال …؟

موطن جديد، حب جديد، عش جديد

كنت أتوق إلى الوطن حتى التقيته في يوم خريفي. حيث كانت الأوراق تتساقط وكانت الأرض رطبة وباردة. أصبح الطعام لا مذاق فيه، ولا شيء يبدو ممتعًا. حتى اتضح لي عندما قابلته – أنه قد أضاء شعاعًا مشمسًا في يومي ولوّنني بابتسامة جديدة. ثم أضحى هذا المكان موطني وموطنه.

الآن أيقنت أنني لا أعرف إلى أين مقصدي، والمكان الذي أتيت منه أصبح يتلاشى. لا أعرف إلى أي شواطئ ستأخذني أمواج الحياة، ولكن أينما تأخذني، سأصعد على متنها، لأنها ستكون رحلة ذات معنى.

أنا أحب موطني الجديد لأنه لا بأس هنا أن أكون غير كاملة. صحيح أنه لن أشعر بشعور الوطن هنا مرة أخرى، لأن جزءًا من قلبي سيكون دائمًا في مكان آخر، ولكن أليس هذا هو الثمن الذي أدفعه مقابل ثراء محبة الناس ومعرفتهم في أكثر من مكان.

أسماء درويش ،هي رئيس المناصرة في مركز البحرين لحقوق الإنسان، و عضو AAWE ورئيس الاتصال في شبكة FAWCO للاجئين